فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}.
هذا أثر الإعراض عن الأعداء في مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجَّلًا ومؤجلًا. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
خَتَمَ اللهُ هَذَا السِّيَاقَ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ شَأْنِهِمْ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا حَالَتَهُمُ النَّفْسِيَّةَ فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَدَرَجَةِ قُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُمْ، وَكَذَا حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ فَقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الْعَدَاوَةُ: بَغْضَاءُ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْمَوَدَّةُ: مَحَبَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِالْمَحَبَّةِ مُطْلَقًا، وَفِي كَلِمَةِ {لَتَجِدَنَّ} تَأْكِيدَانِ: لَامُ الْقَسَمِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي آخِرِهَا، وَفِي الْخِطَابِ بِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لِكُلِّ مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، وَفِي {النَّاسِ} الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَهُودُ الْحِجَازِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ مَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا صِدْقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَلاسيما إِذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا لَاقَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ قَدْ كَانَ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلاسيما مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَرَ مِنَ الْعَدَاوَةِ مِثْلَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ، بَلْ رَأَى مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ أَحْسَنَ الْمَوَدَّةِ بِحِمَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُشْرِكِيهَا الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ؛ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الشُّعُوبِ، كَانَ النَّصَارَى مِنْهُمْ أَحْسَنَهُمْ رَدًّا؛ فَهِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ فِي الشَّامِ حَاوَلَ إِقْنَاعَ رَعِيَّتِهِ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمَّ يَقْبَلُوا لِجُمُودِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ الْجَدِيدِ، اكْتَفَى بِالرَّدِّ الْحَسَنِ، وَالْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ رَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا، وَأَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً حَسَنَةً، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ وَالشَّامُ عَرَفَ أَهْلُهَا مَزِيَّةَ الْإِسْلَامِ، دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَكَانَ الْقِبْطُ أَسْرَعَ لَهُ قَبُولًا.
وَقَدْ كَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى {فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} (79: 25) فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلَا يَعْتَبِرُ بِكَ غَيْرُكَ، فَقَالَ «الْمُقَوْقِسُ»: إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَقَالَ حَاطِبٌ: نَدْعُوكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَافِي بِهِ اللهُ فَقْدَ سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الْإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ أُمُّتُهُ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنَّا نَأْمُرُكَ بِهِ (أَيْ هُوَ الْإِسْلَامُ عَيْنُهُ) فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسَّاحِرِ الضَّالِّ وَلَا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ، وَوَجَدْتُ مَعَهُ آيَةَ النُّبُوَّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ، وَالْإِخْبَارِ بِالنَّجْوَى، وَسَأَنْظُرُ إِلَخْ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَسُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ عُمَانَ جَيْفَرِ بْنِ الْجُلَنْدَى وَأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ الْجُلَنْدَى، فَإِنَّ عَمْرًا عَمَدَ أَوَّلًا إِلَى عَبْدٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْلُمُ الرَّجُلَيْنِ وَأَمْيَلُهُمَا خُلُقًا، فَبَلَّغَهُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدٌ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ؟ قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ: مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ: فَمَتَى تَبِعْتَهُ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَسَأَلَنِي: أَيْنَ كَانَ إِسْلَامُكَ؟ قُلْتُ: عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ؟ فَقُلْتُ: أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ، قَالَ: وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ تَبِعُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: انْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحُ مِنَ الْكَذِبِ، قُلْتُ: مَا كَذَبْتُ وَمَا نَسْتَحِلُّهُ فِي دِينِنَا، قَالَ: مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ النَّجَاشِيِّ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّجَاشِيُّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا وَاللهِ لَوْ سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتُهُ، فَبَلَغَ هِرَقْلَ قَوْلُهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَنَّاقُ أَخُوهُ: أَتَدَعُ عَبْدَكَ لَا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا وَيَدِينُ بِدِينِ غَيْرِكَ دِينًا مُحْدَثًا؟ قَالَ هِرَقْلُ: رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ وَاللهِ لَوْلَا الضَّنُّ بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو، قُلْتُ: وَاللهِ صَدَقْتُكَ، قَالَ عَبْدٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَعَنِ الزِّنَا وَعَنِ الْخَمْرِ وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَنُصَدِّقَ بِهِ، وَلَكِنَّ أَخِي يَضِنُّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ ذَنَبًا، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ «وَقَدْ أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ بَعْدُ».
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ كَانُوا فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَقْرَبَ قَبُولًا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ مُلُوكِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَمَا كَانَ تَوَقُّفُهُ إِلَّا ضَنَّا بِمُلْكِهِ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ (أَصْحَمَةَ) مَلِكَ الْحَبَشَةِ قَدْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ بِطَانَتُهُ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْحَبَشَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْنِ الْمُسْلِمُونَ بِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كَمَا فَعَلُوا فِي مِصْرَ وَالشَّامِ مَثَلًا وَهَذَا بَحْثٌ تَارِيخِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا، وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» عَزَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِهِ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُلَخَّصُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ وَهُوَ يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِلَادَ كِسْرَى فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِأَنْ يَفْتَحَهَا لِأُمَّتِهِ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ مُلْكَ قَيْصَرَ وَدِيَارَ الشَّامِ فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَهَا لَهُمْ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ الْحَبَشَةَ، وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ الدُّعَاءَ بِفَتْحِهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأَوْا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوَدَّةِ النَّصَارَى وَقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا رَأَوْا مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ بُعْدُ النَّصَارَى عَنْهُمْ، وَقُرْبُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعًا، وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَبَى تَرْكَ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَعْنِي بِعَدَاوَةِ أَهْلِهَا وَمُقَاوَمَتِهِمْ كَمَا يُعْنَى الْقَرِيبُ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ مُوَاجَهَةً وَمُشَافَهَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ يَعْطِفُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفَتْحِ وَيَرْغَبُونَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى نَصَارَى الرُّومِ وَالْقُوطِ، ثُمَّ صَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْحُرُوبِ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ؛ لِسَلَفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَاعِدَةُ لِهَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْمَوَدَّةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ أَثَرَ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالسِّيَادَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَلَا دَخْلَ لِطَبِيعَةِ الدِّينِ فِيهَا، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِمَا يُثِيرُهُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمَا بَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْنِ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ مُسْلِمِي الْهِنْدِ وَمُشْرِكِيهَا؛ لِتَعَارُضِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ فِيهَا، فَعِلَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ خَارِجِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا جِنْسِيَّةٌ.
هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي جُمْلَتِهِ لَا تَفْصِيلِهِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمُتَّفِقِينَ فِيهِ، فَقَدْ حَارَبَ نَصَارَى الْبَلْقَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا حَارَبُوا الْعُثْمَانِيِّينَ، بَلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّصَارَى يُحَارِبُ الْآنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ كَالْإِنْجِلِيزِ وَالْأَلْمَانِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ هُنَا مَعْنًى أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَعَمَّ لَا خَاصًّا بِالتَّنَازُعِ.
وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَاوَةِ الْمُعَادِينَ وَمَوَدَّةِ الْمُوَادِّينَ هِيَ الْحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَتَرْبِيَتِهِمُ الْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ سَبَبِ مَوَدَّةِ النَّصَارَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَرْكِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْيَهُودِ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ.
كَانَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي اقْتَضَتْ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَمِنْهَا الْكِبْرُ، وَالْعُتُوُّ، وَالْبَغْيُ، وَحُبُّ الْعُلُوِّ، وَمِنْهَا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ، وَالْحَمِيَّةُ الْقَوْمِيَّةُ، وَمِنْهَا غَلَبَةُ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمِنْهَا الْأَثَرَةُ، وَالْقَسْوَةُ، وَضَعْفُ عَاطِفَةِ الْحَنَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ الْيَهُودِ قُلُوبًا، وَأَكْثَرَ سَخَاءً وَإِيثَارًا، وَأَشَدَّ حُرِّيَّةً فِي الْفِكْرِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَمَا قَدَّمَ اللهُ ذِكْرَ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ إِلَّا لِإِفَادَةِ أَصَالَتِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ، وَتَبْرِيزِهِمْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيذَاءِ بَعْضٍ، وَاسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ضَلْعِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَفَيُّؤِ ظِلِّ عَدْلِهِمْ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ اضْطِهَادِ نَصَارَى تِلْكَ الْبِلَادِ لَهُمْ، فَهُمْ لَمْ يَعُدُّوا فِي ذَلِكَ فِي عَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عُرِفَ مِنْ شِنْشِتَهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا إِلَّا لِمَصْلَحَتِهِمْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْخَوْفَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا: الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، لابد أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا.
فَتِلْكَ كَانَتْ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ الْغَالِبَةَ لَا أَخْلَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّتَيْنِ كَافَّةً، فَفِي كُلِّ قَوْمٍ خَبِيثُونَ وَطَيِّبُونَ {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (7: 159) وَلَكِنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ نَفْسَهَا تُرَبِّي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَةَ الْجِنْسِيَّةَ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ أَحْكَامِهَا وَنُصُوصِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ:
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: الْمُرَادُ مِنْهَا تَرْبِيَةُ أَمَةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ إِنْقَاذِهَا مِنَ اسْتِعْبَادِ أَشَدِّ الْوَثَنِيِّينَ بَطْشًا، وَأَضَرِّهُمْ بِالِاسْتِبْدَادِ وَهِيَ أُمَّةُ الْفَرَاعِنَةِ وَلَوْ أَذِنَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ يُخَالِطُوا الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُمْ عَامَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى قَوَاعِدِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَغَلَبَتْ تَعَالِيمَ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ، وَشُرُورِهِمْ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِمُ الْوِرَاثِيِّ لِقَبُولِ تَقَالِيدِ غَيْرِهِمْ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَلَّا يُبْقُوا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ نَسْمَةً مَا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا قَبْلَهُمْ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ مِنْ مَفَاسِدَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَهُ.